الاستثمار في الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs): تحليل شرعي

مع تطور تقنيات البلوكشين والانتقال نحو الاقتصاد الرقمي، ظهرت أصول رقمية جديدة أحدثت جدلًا واسعًا بين المستثمرين والعلماء على حد سواء، من أبرزها الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs).

تُستخدم NFTs في مجالات مثل الفن الرقمي، الألعاب، المقتنيات، الأصول الافتراضية، والموسيقى، وغالبًا ما تُباع بمبالغ ضخمة عبر منصات إلكترونية لامركزية.

لكن هذا التطور التقني السريع أثار تساؤلات جوهرية، خاصة في العالم الإسلامي، حول شرعية امتلاك وتداول NFTs، وهل الاستثمار فيها يُعد مشروعًا وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية؟

في هذا المقال، نُقدم تحليلًا شرعيًا شاملًا لمفهوم NFTs، مع استعراض حالات الجواز والمنع، وأفضل الممارسات للمستثمر المسلم في هذا المجال الجديد.

ما هي الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)؟

الـ NFTs هي اختصار لـ Non-Fungible Tokens، أي رموز غير قابلة للاستبدال، وهي وحدات رقمية فريدة تُخزن على شبكة البلوكشين وتُستخدم لتمثيل ملكية أصل رقمي أو حتى مادي.

أهم خصائص NFTs:

• فريدة: لا يمكن استبدال NFT بآخر من نفس النوع.

• قابلة للتحقق: كل NFT مسجل على البلوكشين ويمكن تتبع تاريخه.

• تمثل ملكية رقمية: مثل صورة، ملف صوتي، فيديو،

مجالات استخدام NFTs

1. الفن الرقمي: بيع الأعمال الفنية كرموز NFT.

2. الألعاب (GameFi): شراء شخصيات أو أدوات داخل اللعبة على شكل NFT.

3. العقارات الافتراضية: امتلاك أراضٍ أو عقارات في الميتافيرس.

4. الموسيقى والمحتوى الإعلامي: بيع الأغاني أو الكتب كرموز رقمية فريدة.

5. العضويات الحصرية: NFTs تمثل اشتراكات في خدمات رقمية.

ما حكم الاستثمار في NFTs؟

أولًا: هل تُعتبر NFTs أموالًا شرعية؟

من الناحية الفقهية، يُشترط في المال الذي تجوز المعاملة عليه أن يكون:

• له قيمة معتبرة

• مملوكًا ملكًا حقيقيًا

• مشروعًا في ذاته واستعماله

وبالتالي، إذا مثّلت الـ NFT أصلًا مشروعًا له قيمة ويُنتفع به في المباح، فيجوز تملكه وبيعه، بشرط أن يتم ذلك عبر عقد صحيح وتُراعى فيه الضوابط الشرعية.

ثانيًا: متى يكون الاستثمار في NFTs جائزًا شرعًا؟

1. إذا كانت تمثل أصلًا مباحًا

مثل:

• عمل فني نافع لا يخالف القيم الإسلامية.

• أداة داخل لعبة غير محرّمة.

• كتاب إلكتروني علمي أو تعليمي.

• تذكرة فعالية افتراضية مباحة.

2. إذا كان التملّك حقيقيًا موثقًا

يجب أن يُثبت العقد ملكية المشتري للرمز الرقمي بطريقة موثقة، ويمنحه حق التصرف فيه شرعًا.

3. إذا لم يكن الغرض منها المضاربة العشوائية

الشراء فقط بقصد البيع السريع والمضاربة دون النظر لقيمة الأصل يُقارب سلوك المقامرة، وهو محرم شرعًا.

4. إذا كانت المنصة أو المشروع مشروعًا

يُشترط أن تكون المنصة خالية من الممارسات الربوية، وأن لا تدعم أنشطة محرمة.

ثالثًا: متى يكون الاستثمار في NFTs غير جائز؟

1. إذا كانت تمثل أصولًا محرّمة

• صور مخلة أو غير لائقة شرعًا.

• ألعاب تقوم على العنف أو الترويج للحرام.

• شخصيات خيالية بأبعاد دينية أو ثقافية غير مقبولة.

• محتوى موسيقي مخالف للضوابط الإسلامية.

2. إذا كانت المعاملة قائمة على الغرر أو الجهالة

• شراء NFT دون معرفة حقيقية بقيمته أو طبيعته.

• البيع والشراء دون تحديد واضح للحقوق والالتزامات.

3. إذا تم التعامل من خلال عقود أو منصات تحتوي على ربا

مثل فرض رسوم تخزين أو عمولات تبييت بطريقة ربوية، أو استخدام بطاقات ائتمانية بفوائد.

4.

أي شراء الرموز فقط لأن أسعارها "قد" ترتفع، دون اعتبار حقيقي لقيمة الأصل.

قال النبي ﷺ: "من غش فليس مني" – رواه مسلم
ويُستدل منه على حرمة التعامل في أسواق مشبوهة أو تخدع المستثمرين.

رابعًا: الإشكالات الشرعية التي يثيرها سوق NFTs

1. قيمة الأصل غير واضحة: هل تساوي آلاف الدولارات صورة رقمية قابلة للنسخ؟

2. غياب الرقابة التنظيمية: كثير من المنصات غير مرخصة أو غير شفافة.

3. احتمالات غسل الأموال: يُستخدم NFT أحيانًا في تبييض الأموال بسبب صعوبة التتبع.

4. الغرر والمخاطرة العالية: الأسعار تتغير بسرعة وقد تنخفض إلى الصفر.

خامسًا: كيف يستثمر المسلم في NFTs بطريقة شرعية؟

خطوات عملية:

1. افحص محتوى الـ NFT قبل الشراء: تأكّد من مشروعية الأصل.

2. اختر منصة موثوقة ومحايدة: يُفضل أن تكون مرخّصة أو تخضع لرقابة.

3. ادفع بوسائل شرعية فقط: تجنب البطاقات الربوية أو القروض.

4. تأكد من وجود عقد واضح يوثق الملكية.

5. تجنّب الشراء بدافع الطمع أو الشراء الجماعي المجهول.

6. لا تعتمد على توصيات مجهولة أو مجموعات مضاربة.

سادسًا: رأي العلماء وهيئات الفتوى

• بعض العلماء يُجيزون التعامل مع NFTs بضوابط مشددة، ويُشترط أن تمثّل أصلًا مباحًا، وأن لا يدخل فيها غرر أو ربا.

• مجامع فقهية ما زالت تدرس الظاهرة نظرًا لحداثتها وتعقيداتها.

• الراجح الفقهي: الحكم يتبع طبيعة الأصل الممثَّل بـ NFT وطريقة التعاقد.

سابعًا: هل يمكن إخراج الزكاة على NFTs؟

إذا كانت:

• تُملك بهدف التجارة أو الاستثمار.

• بلغت النصاب.

• مرّ عليها حول كامل.

فإن الزكاة تُحسب بنسبة 2.5% من قيمتها السوقية وقت إخراج الزكاة، بشرط إمكانية تقييمها بدقة.

الخلاصة

يمثّل الاستثمار في الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) تحديًا شرعيًا وتقنيًا معاصرًا. وهو مجال لا يُمكن حظره بالكامل، لكنه يتطلب وعيًا دقيقًا وفهمًا متكاملًا لمفهوم المال الشرعي، طبيعة الأصل الرقمي، وأدوات التعامل الحديثة.

فالمسلم مسؤول عن أمواله أمام الله، ويجب أن يُدير استثماراته بما يُحقق له الربح الحلال، ويبعده عن الشبهات والغرر والربا. وعليه، فإن التعامل مع NFTs ليس حرامًا بإطلاق، ولا حلالًا بإطلاق، بل يتوقف على طبيعة الأصل، شكل العقد، وسلوك المستثمر.